حوار خاص مع رئيس الحكومة الأسبق : أحمد بن بيتور حول الأزمة المالية
حاوره: محمد سيدمو: جريدة الخبر
يتحسر رئيس الحكومة السابق أحمد بن بيتور، على عدم التقاط السلطة لإشارات الخطر التي كان قد أطلقها في العديد من الأوراق والمساهمات في 2011 والتي كانت تتوقع بدقة تفاصيل الأزمة المالية على الوجه الذي تعترف به الحكومة اليوم. ويشير بن بيتور في هذا الحوار مع “الخبر” إلى أن البلاد مقبلة على موجات تضخمية كبرى بـ3 أو 4 أرقام، لها عواقب وخيمة على مستقبل الجزائر. ويكشف من كان سباقا للترشح في رئاسيات 2014، عن أنه لم يعد يؤمن بالترشح والانتخابات في الجزائر، ويلفت إلى أن الحل لن يكون إلا بتغيير جذري في النظام ينطلق من اعتراف النظام نفسه بواقع الأزمة.
ما هو تشريحك لواقع الاقتصاد الجزائري خاصة أن أغلب توقعاتك السابقة حول الأزمة صدقت اليوم؟
الاقتصاد الجزائري ريعي مبني أساسا على تصدير المحروقات.. ومنذ 2006 بدأنا في تسجيل انخفاض في الإنتاج يقابله ارتفاع في الطلب الداخلي مما يؤدي إلى خفض التصدير. بين 2006 و2011، انخفض حجم تصدير المحروقات بـ26.5 بالمائة، لكن ما غطّى عليه هو ارتفاع الأسعار، وهو ما جعل هذا الانخفاض غير محسوس. أذكر أني في 2011، حذرت في رسالة برنامجي، من أن البلاد تسير إلى ندرة في التمويل في سنة 2017. في ذلك الوقت اتهموني بالتخويف وقد انطلى ذلك على البعض بسبب المداخيل الكبيرة التي كانت تحققها الجزائر والتي كانت تعميهم عن رؤية الحقيقة. كما أني توقعت في ذلك الوقت أيضا انخفاضا في أسعار البترول بسبب التوجه العالمي نحو بدائل البترول والعمل على ترشيد استهلاك الطاقة. وأنا أقول اليوم أنه في 10 سنوات المقبلة، لن تتجاوز الأسعار معدلا سنويا بـ 60 دولار للبرميل.
نحن اليوم دخلنا عهد الندرة في التمويل التي أصبحت ظاهرة في الأرقام. مداخيل التصدير في 2013 كانت 64 مليار دولار أما في سنة 2016، فنزلت إلى 27 مليار دولار. بالتالي، حتى نغطي عجز الميزان التجاري، اقتطعت 34 مليار دولار في 2015 من احتياطي الصرف و30 مليار دولار في 2016. هذا يعني أنه من هذه السنة إلى غاية 2019، سينضب احتياطي الصرف الجزائري.
الحكومة بتوجيهات الرئاسة تقول إن المديونية الخارجية خط أحمر.. هل تشاطرون هذا التوجه؟
علينا أن ندرك، أنه حتى يتم إقراضنا من الخارج، فإنه يجري التأكد أولا من قدرتنا على تسديد هذا الدين. أتذكر أني قبل أن أتوجه للتفاوض حول إعادة الجدولة في سنوات التسعينات، أمضيت سنة في وزارة الطاقة كوزير للطاقة، لكي تكون بحوزتي كل المعلومات الدقيقة، حتى أكون قادر على الإقناع بقدرتنا على التسديد. اليوم وفي ظل الوضع الذي نعيشه، أستطيع أن أؤكد لك، أنه لا توجد أي جهة ستقبل بإقراضنا، باستثناء بلد وحيد ربما، هو الصين الذي يمكن أن ينشئ إنجازات بالدين، بسبب فوائضه المالية. أما أن يتم إقراض الجزائر من أجل أن تستورد فهذا غير وارد إطلاقا. ما قلته في السابق، أننا في سنة 2019 لن يكون بإمكاننا الاستيراد، وهذا ما نحن سائرون إليه، علما بأن لنا تبعية مفرطة للخارج، بحيث أننا نستورد 75 بالمائة من الحريرات (الوحدات الغذائية) من الخارج. إذن الحكومة تمارس التغليط، عندما تتحدث أنها ترفض الاستدانة من الخارج، لأنها في واقع الحال، لن تجد أحدا يقرضها.
هناك خطأ كبير يتم تسويقه أيضا، يتعلق بأننا في حال توجهنا إلى المديونية الخارجية فإن هناك شروطا ستفرض علينا. هذا كلام يريد به النظام فقط أن يعلق به فشله على الآخرين..
لكن الشائع أنه في سنوات التسعينات عندما قامت الجزائر بإعادة جدولة ديونها فرضت عليها شروط مثل غلق المؤسسات وتسريح العمال وغيرها .. أليس كذلك؟
هذه مغالطة كبرى. أتحدى أيا كان أن يأتيني بأي شرط فرض على الجزائر لغلق أي مؤسسة في مفاوضات إعادة جدولة الديون التي قدتها بالمناسبة. الحكومة التي جاءت بعد ذلك (حكومة أويحيى الأولى)، هي من عمدت إلى غلق المؤسسات وتسريح العمال، وأنا لم أكن راضيا عن هذه السياسة وقدمت استقالتي في سنة 1996. أما الهيئات المالية العالمية التي تعاملنا معها، فقد طالبونا بإعادة بناء التوازنات المالية، ونحن قدمنا لهم السياسة التي اتخذناها وتم قبولها. صندوق النقد الدولي، ليست مهمته أصلا فرض شروط، ولكنه يعمل على تثبيت التوازنات الكبرى عالميا، من خلال دراسة حالة التوازنات بكل دولة والمطالبة بتصحيح الاختلالات التي يسجلها، لكنه لا يفرض الحلول، لكن عندما تطلب منه دين، فعندئذ قد يطلب منك شروط ليتأكد من استعادة أمواله. وفي الحالة الخاصة بنا، فإن الجزائر لم تطلب الدين في الفترة ما بين 1994 و1998، بل قبل ذلك، وصندوق النقد الدولي، لم يفرض شروطا أبدا لا قبل الحصول على الدين ولا بعده.
يثور جدل كبير حول لجوء الحكومة إلى التمويل غير التقليدي (إصدار العملة دون تغطية).. ما رأيك في هذا التوجه؟
لا بد أن نذكر بأنه في سنة 2011، ارتفعت ميزانية التسيير بـ47 بالمائة مقارنة بـ2010، بينما لا ترتفع في دول أخرى سوى بـ 1 أو 2 بالمائة، هذا مؤشر فقط يظهر مدى الإفراط في الإنفاق. سعر البرميل الذي كان يغطي الميزانية كان بـ34 دولار في 2005، وأصبح بـ 113 دولار في 2015. تراكم هذا الوضع، وترتب عنه في الأخير مع انخفاض أسعار البترول، عجز كبير في الميزانية، دفع بالحكومة هذه المرة إلى اللجوء إلى البنك المركزي من أجل إصدار العملة دون تغطية من أجل سد العجز. هذا الإجراء سيكون له أثر على التضخم، وعلى المواطنين أن يعلموا أن التضخم المنتظر قد يكون بـ3 أو 4 أرقام، أي أن الارتفاع في الأسعار سيكون كبيرا جدا. لو نأخذ مثال دولة صربيا، التي عملتها تسمى الدينار مثل الجزائر، في وقت أزمتهم ارتفع سعر البطاطا من 4 آلاف دينار إلى 17 مليار دينار.
هذا يعني أننا مقبلون على مرحلة خطيرة جدا بعد هذا الإجراء.. ألم تكن هناك خيارات أخرى؟
النظام حاليا ليس له خيارات. المديونية بالنسبة له ليست متاحة كما بينت سابقا، وهو كذلك ليس قادرا على خفض المصاريف، لأنه عوّد المواطنين على نمط معين من الإنفاق. بقي له خيار التمويل غير التقليدي (الإصدار النقدي) الذي لجأ إليه على أساس أن الأثر التضخمي له سيشعر به الناس شيئا فشيئا. لذلك الإشكال في اعتقادي أعمق من مسألة الأشخاص والسياسات، بل يتعلق بتغيير نظام الحكم ككل، وهو أمر يتطلب التجنيد السلمي للمواطنين من أجل تحقيقه، لأن هدفنا جميعا، ينبغي أن يكون حماية الأمة الجزائرية التي أصبحت في خطر محدق. أُذكر أنه في سنة 2019، لن يكون بإمكاننا الاستيراد، كما أنه ليس في قدرتنا إلى ذلك الوقت إنتاج 75 بالمائة من الحريرات التي نستهلكها، ولن نجد أيضا من يقرضنا.
البعض يُهون من حجم الأزمة الحالية كونها لا تصل إلى درجة خطورة أزمة نهاية الثمانينات .. هل تشاطر هذا التحليل؟
هذه مغالطة كبرى، في تلك الفترة كانت هناك برامج لإعادة بناء الاقتصاد وزيادة إنتاج البترول الذي ارتفع إلى سنة 2006 قبل أن يعاود الانخفاض. المشكلة اليوم أن الانخفاض موجود في إنتاج البترول الذي هو أساس الميزانية. ولدينا احتياطي صرف سينتهي في 2019 ولن يكون بالإمكان تجديده. لذلك من غير الصحيح أن نقول أن حالتنا اليوم أحسن من الثمانينات، بل بالعكس هي أسوأ بكثير.
من بين مبررات اللجوء لهذا الخيار أنه استعمل في اليابان وأمريكا وأوربا .. هل يصح التشبيه في رأيك؟
لست أدري من أين جاء بهذا .. في أمريكا البنك المركزي حر بنسبة 100 بالمائة.. كان الرئيس الأمريكي ريغن يقول إن محافظ البنك المركزي هو الوحيد الذي يسبب له مشاكل ولا يستطيع إزاءه فعل أي شيء.. ما أعلمه أن هذا الإجراء طبق في تركيا وقد أدى إلى كوارث تضخمية، بل أقول إن حالتنا قد تكون أسوأ مستقبلا من فنزويلا التي لا تعتمد بهذه النسبة المفرطة على الاستيراد كما نفعل نحن.
هناك أصوات في المعارضة تطالب بتطبيق المادة 102 من الدستور..هل تؤيدها؟
واضح أن رئيس الجمهورية عاجز عن أداء مهامه الدستورية، وقد أوضحت قبل رئاسيات 2014 أن البلاد بحاجة إلى رئيس للجمهورية يعمل ما لا يقل عن 14 ساعة يوميا. لكن لا ينبغي أن نغالط أنفسنا، لأن استبدال رئيس الجمهورية ليس هو من سيحسن وضع البلاد، إذا لم يكن ثمة تغيير شامل لنظام الحكم ككل. نحتاج اليوم قائدا يكون في نفس الوقت رجل إطفاء لأن النار مشتعلة حولنا ومهندس حتى يستطيع بناء الدولة والمدرسة والإدارة على ضوء المتغيرات العالمية الهائلة. بخصوص المادة 102، يفترض أن لدينا مؤسسات، ومادام الرئيس حاليا غير قادر على أداء مهامه فيجب على المجلس الدستوري القيام بمهامه لكنه لا يفعل ذلك للأسف.
ثمة أيضا من يطرح تدخل الجيش لإيجاد مخرج للمأزق السياسي.. كيف تنظر لهذه الدعوات؟
أنا ضد تدخل الجيش في السياسة، لأننا جربنا هذا الخيار وأوصلنا لهذه الحالة، وبالتالي لا يمكنه أن يخرجنا منها. تماما مثل الذي أوصلنا للفشل الاقتصادي بسعر برميل يساوي 147 دولار، لا يمكنه إنقاذنا وسعره يساوي 40 دولار.
أنت كنت من السباقين للترشح لرئاسيات 2014.. لماذا لم تكرر التجربة في رئاسيات 2019؟
كنت قد قلت بأنه في البلدان العربية إذا ترشح رئيس الجمهورية فإنه لا يترك أي فرصة للآخرين.. لذلك عندما قرر الرئيس الترشح سحبت ترشحي حتى مع حصولي على الإمضاءات الكافية. أصارحك اليوم أني لم أعد أؤمن بالترشح والانتخابات، وأطالب بتغيير نظام الحكم ولدي تصور لذلك..
ما هو التصور الذي تطرحه؟
يجب أن يتكون مجلس وطني ينبثق عنه 5 إلى 6 أشخاص من المستوى العالي، تكون عندهم مهام مدة 3 أشهر، لبلورة سياسة اقتصادية جديدة، وتكوين حكومة انتقالية .. وفي مدة 12 شهرا يتم تنظيم انتخابات رئاسية ببرنامج واضح المعالم ..
لكن هذا المجلس الوطني من يختاره ومن أين يأتي؟
هذه مسؤولية النظام القائم الذي في حال اقتنع بهذا الخيار، فإنه يستطيع تنظيم لقاء ينبثق عنه هذا المجلس وسينخرط في هذا المسعى كل المهمومين بمستقبل البلاد. وكما قلت فإن هذا المجلس، سيخرج من 5 إلى 6 أشخاص يتولون مهام رئيس الجمهورية الحقيقية لتسيير شؤون البلاد في مرحلة انتقالية ..
أفهم من كلامك أنك ضد فكرة المجلس التأسيسي..؟
من خلال تجربتي، أعلم أن التسيير عندما يعهد لأكثر من 7 أشخاص فإنه سيتعرض للفشل..
ومن سيضع الدستور في هذه الحالة؟
في تصوري فإنه لا بد من العودة إلى دستور 2002 الذي احتفظ بدستور 1996 وأضاف له البعد الأمازيغي في مكونات الهوية الجزائرية. هذا الدستور جيد وسنعود من خلاله إلى تحديد العهدات الرئاسة وإعادة منصب رئيس الحكومة بدل الوزير الأول. بعد الفترة الانتقالية، يكون تفكير لدستور جديد، لأن الدستور يأتي من القاعدة وليس القمة.
كيف رأيت تعيين حكومة تبون وإقالتها في 3 أشهر؟
أصارحك أني لست مهتما تماما بما يجري من تعيينات، لأني أطالب بتغيير شامل لنظام الحكم وليس للأشخاص.
هل تعتقد أن لرجال الأعمال من النفوذ بحيث أصبحوا قادرين على الإطاحة بوزير أول؟
لما تكون الدولة مميعة، أي مجموعة يمكنها أن تفرض ما تريد، في إطار الصراع على مصالحها.
هناك سؤال كبير تطرح مراكز الدراسات في العالم، حول من يحكم الجزائر في ظل غياب الرئيس.. كيف تجيب عنه؟
هناك أقطاب داخل السلطة .. وكل قطب يتخذ القرارات في مجاله بمغزل عن الآخر.. أي أن الدولة مفككة اليوم. عندما نشرح الوضع بدقة، نجد أن السلطة في الجزائر لديها 3 خصوصيات، أولها التسلط وثانيها النظام الإرثي (باتريمونيالزم) الذي يعني وجود قائد تدور من حوله مجموعات تتنافس بينها لإرضائه والاستفادة من تبرعاته، وثالثها هي الأبوية التي يعتقد فيها القائد أن له علاقة مباشرة مع الشعب، وبالتالي يعمل على إفشال المؤسسات الوسيطة سواء كانت الحكومة أو البرلمان أو الإدارات أو غيرها.. وبإضافة الريع والنهب حول الريع، نصل إلى الدولة المميعة التي تبرز في 5 مؤشرات.. هي تأسيس الجهل والركود وعبادة الأشخاص وتأسيس الفساد وانحصار القرار في يد عدد قليل من الأشخاص وآخرها تفتيت الأقطاب في أعلى هرم السلطة بحيث لا تصبح هناك قيادة متحكمة في الوضع..وهذا ما نعيشه اليوم بدقة.
ما رأيك في من يروج للعهدة الخامسة ؟
عهدة خامسة لمن ؟ أين هو الرئيس ؟ هذا كلام يتكلم به البعض لقضاء مصالحهم ليس إلا.
المعارضة كانت قد تكتلت واقترحت حلولا في السابق كنت طرفا فيها.. لكنها اليوم يبدو أنها تخلت على مشروعها المشترك .. لماذا؟
بسبب الانتخابات التشريعية ثم المحلية، تغلبت مصالح الأحزاب المشكلة لهذه التكتلات على مصلحة المجموعة. هذا لا يعني أنها تخلت عن مشروعها المشترك ولكنها اهتمت أكثر بأمورها الداخلية. بعد الانتخابات لم نلتق سوى مرة واحدة، ومن ثم لم نستطع أن نقف على وضعنا الحالي بالتحليل الشافي.